فصل: باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ مرةً‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد روى هذا الحديث عن النبي عليه السلام علي بن أبي طالب بزيادة واختلاف فى لفظه ذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى إسحاق عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على قال‏:‏ ‏(‏قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك‏:‏ لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلى العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وكان السلف يدعون بهذا الدعاء، قال أبو أيوب‏:‏ كتب إليه أبو قلابة بدعاء الكرب، وأمره أن يعلمه ابنه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن دعاء الكرب إنما هو تهليل وتعظيم لله، فما معنى قول ابن عباس كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو بدعاء الكرب وتسمية السلف له بذلك‏؟‏ قيل‏:‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يقدم هذا التهليل قبل الدعاء، ثم يدعو بعده بما أراد على ما روى حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبى العالية، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن رسول الله كان إذا حزبه أمر قال‏:‏ لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات السبع وربّ العرش الكريم، ثم يدعو‏)‏‏.‏

ويبين هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال‏:‏ كان يقال‏:‏ إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء‏.‏

وقد نبه على ذلك المعنى ابن مسعود فقال‏:‏ إذا خشيتم من أمير ظلمًا فقولوا‏:‏ اللهم ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم كن لى جارًا من فلان وأشياعه من الجن والإنس وأن يفرطوا علىّ وأن يطغوا، عزّ جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فإنه لا يصل إليكم منه شىء تكرهونه‏.‏

والمعنى الثانى‏:‏ ما روى عن حسين المروزى قال‏:‏ سألت ابن عيينة ما كان أكثر قول النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة‏؟‏ فقال‏:‏ لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ولله الحمد، ثم قال لى سفيان‏:‏ إنما هو ذكر وليس فيه دعاء ثم قال لى‏:‏ أما علمت قول الله حيث يقول‏:‏ إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، حدثتنى أنت وابن مهدى بذلك عن منصور ابن المعتمر، عن مالك بن الحارث، ثم قال سفيان‏:‏ أما علمت قول أميّة بن أبى الصلت حين أتى ابن جدعان يطلبه نائلة وفضله‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ قال أمية‏:‏ أأطلب حاجتى أم قد كفانى إذا أثنى عليك المرء يومًا غناؤك إن شيمتك الحياء كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان‏:‏ هذا مخلوق حين نسب إلى أن يكتفى بالثناء عليه دون مسألته، فكيف بالخالق‏؟‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحدثنى أبو بكر الرازى قال‏:‏ كنت بأصبهان عند الشيخ أبى نعيم أكتب عنه الحديث، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبى بكر بن على، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد فبغَّاه عند السلطان، فأمر بسجنه، وكان ذلك فى شهر رمضان، قال أبو بكر‏:‏ فرأيت النبي عليه السلام فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح، فقال لى النبي عليه السلام‏:‏ قل لأبى بكر بن على‏:‏ يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى حتى يفرج الله عنه، فأصبحت فأتيت إليه وأخبرته بالرؤيا، فدعا به فما بقى إلا قليلاً حتى أخرج من السجن‏.‏

ففى هذه الرؤيا شهادة النبى صلى الله عليه وسلم لكتاب البخارى بالصحة بحضرة جبريل صلى الله عليه وسلم والشيطان لا يتصور بصورة النبى فى المنام‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد مما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه عن نفسه فهو من جهد البلاء، وروى عن ابن عمر أنه سُئل عن جهد البلاء، فقال‏:‏ قله المال وكثرة العيال‏.‏

ودرك الشقاء ينقسم قسمين فيكون فى أمور الدنيا وفى أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء وهو عام أيضًا فى النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد‏.‏

وشماتة الأعداء مما ينكأ القلب، ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وهذه جوامع ينبغى للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما دعا بذلك صلى الله عليه وسلم معلمًا لأمته ما يتعوّذ بالله منه، فقد كان أمنه الله من كل سوء، وذكر عن أيوب صلى الله عليه أنه سئل عن أى حال بلائه كان أشدّ عليه‏؟‏ قال‏:‏ شماتة الأعداء‏.‏

أعاذنا الله من جميع ذلك بمنّه وفضله‏.‏

باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ

- فيه‏:‏ خَبَّاب، أَنَّهُ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ‏:‏ لَوْلا أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌكم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ، فَلْيَقُلِ، اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى‏)‏‏.‏

معنى هذين الحديثين على الخصوص، وقد بين صلى الله عليه وسلم ذلك فى الحديث فقال‏:‏ ‏(‏لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به‏)‏‏.‏

فقد يكون له فى ذلك الضرّ خير لدينه ودنياه، إما تمحيص لذنوب سلفت له وطهور من سيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم للشيخ الذى زاره فى مرضه وقد أصابته الحمىّ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا بأس طهور إن شاء الله‏)‏‏.‏

وقد يكون له فى المرض منافع، منها‏:‏ أن يكون المرض سببًا إلى امتناعه من سيئات كان يعملها لو كان صحيحًا، أو بلاء يندفع عنه فى نفسه وماله، فالله أنظر لعبده المؤمن فينبغى له الرضا عن الله تعالى فى مرضه وصحته ولا يتهم قدره، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه أو تعذّر أمور دنياه عليه‏.‏

وقد جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا لإتلاف الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنى إليك غير مفتون‏)‏‏.‏

وجه آخر وهو عند خوف المؤمن أن يضعف عن القيام بما قلده الله كما قال عمر‏:‏ اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط‏.‏

فخشى عمر رضى الله عنه أن يطول عمره ويزيد ضعفه، ولا يقدر على القيام بما قلده الله وألزمه القيام به من أمور رعيته، وكان سنه حين دعا بذلك ستين سنةً أو نحوها، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز إذ سأل لنفسه الوفاة وسنّة فى الأربعين حرصًا على السلامة من التغيير، فهذان الوجهان مباح أن يسأل فيهما الموت، وقد تقدّم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت‏.‏

باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى‏:‏ وُلِدَ لِى غُلامٌ فَدَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم له بِالْبَرَكَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ السَّائِب، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو عُقَيْل، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ، عَبْدُاللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ، فَيَقُولانِ له‏:‏ أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ‏.‏

- وفيه‏:‏ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِى مَجَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيَدْعُو لَهُمْ‏.‏

فيه‏:‏ الذهاب بالصبيان إلى الصالحين وسؤالهم الدعاء لهم بالبركة، ومسح رءوسهم تفاؤلاً لهم بذلك وتبركًا بدعائهم، وفي حديث محمود بن الربيع مداعبة الأئمة وأهل الفضل للصبيان، وأن ذلك من أخلاق الصالحين، وفى حديث أبى عقيل رغبة السلف الصالح فى الربح الحلال، وحرصهم على بركة التجارة، وأنهم كانوا يتحرّفون فى التجارات ويسعون فى طلب الرزق ليستغنوا بذلك عن الحاجة إلى الناس، ولا يكونوا عالةً ولا كلاً على غيرهم‏.‏

باب الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

- فيه‏:‏ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏قُولُوا‏:‏ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ نحوه‏.‏

اختلف العلماء فى الصلاة على النبى هل هى فرض أم لا‏؟‏ فذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست بفرض فى الصلاة، وذكر ابن القصار عن ابن المواز أنها واجبة، قال‏:‏ والمشهور عن أصحابنا أنها واجبة فى الجملة على الإنسان أن يأتى بالشهادتين مرةً فى دهره مع القدرة عليه، وشذّ الشافعي فزعم أن ذلك فرض فى الصلاة، واحتج بحديث كعب بن عجرة، رواه عن إبراهيم بن محمد عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وفى حديثه‏:‏ ‏(‏وذلك فى الصلاة‏)‏‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ وكان من حجة من خالفه عليه أن إبراهيم بن محمد ليس ممن يحتج بحديثه، ولو ثبت حديثه هذا لم يكن فيه دليل أن ذلك فرض؛ لأنا قد وجدنا مثل ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم من آى القرآن ومن الأمر منه أن يجعل ذلك فى الصلاة، فلم يكن مراده ذلك الفرض، وهو حديث عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنه لما نزل‏:‏ ‏(‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏، قال‏:‏ اجعلوها فى ركوعكم، ولما نزلت‏:‏ ‏(‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ قال‏:‏ اجعلوها فى سجودكم، وكان من ترك التسبيح فى الركوع والسجود غير مفسد لصلاته، وكذلك روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه علمهم التشهد فى الصلاة، وليس منه الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وقد تقدّم ذلك فى كتاب الصلاة فانتفى أن يكون على المصلى فرض غير ما علمه النبى صلى الله عليه وسلم ودل ذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ على الندب، لا على الفرض، ونحو هذا ذكر الطبرى، وقال‏:‏ الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ندب وفضل فى كل حال، وعلى هذا تأويل هذه الآية‏.‏

باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ‏:‏ كَانَ إِذَا جَاء رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ‏)‏، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏قُولُوا‏:‏ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏)‏‏.‏

قال الضحاك‏:‏ صلاة الله‏:‏ رحمته، وصلاة الملائكة‏:‏ الدعاء، والصلاة على غير النبى صلى الله عليه وسلم جائزة بدليل الكتاب والسنة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى على من أتاه بصدقته، وفى حديث أبى حميد أمر بالصّلاة على أزواجه وذريته وأزواجه من غير نسبة وهذا الباب رد لقول من أنكر الصلاة على غير النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا هشيم حدثنا عثمان بن حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ما أعلم الصلاة تنبغى من أحد على أحد إلا على النبى صلى الله عليه وسلم والحجة فى السنة لا فيما خالفها‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ آذَيْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

هذا الحديث يصدقه ما ذكره الله تعالى فى كتابه من صفة رسوله صلى الله عليه وسلم فى قوله‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وهو صلى الله عليه وسلم لا يسبّ أحدًا ولا يؤذيه ظلمًا له، وإنما يفعل من ذلك الواجب فى شريعته، وقد يدع الانتقام لنفسه، لما جبله الله عليه من العفو وكريم الخلق صلى الله عليه ومعنى هذا الحديث والله أعلم، التأنيس للمسبوب لئلا يستولى عليه الشيطان، ويقنطه ويوقع بنفسه أن سيلحقه من ضرر سبّه ما يحبط به عمله إذا سبّه صلى الله عليه وسلم هو دعاء على المسبوب، ودعاؤه مجاب، فسأل الله أن يجعل سبّه للمؤمنين قربة عنده يوم القيامة وصلاةً ورحمةً، ولا يجعله نقمةً ولا عذابًا‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ

- فيه‏:‏‏.‏

أَنَس، سُئل النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلُونِى الْيَوْمَ عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ‏)‏، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى الرِّجَالَ، يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏حُذَافَةُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث إلى قول عُمر‏:‏ ‏(‏نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ‏)‏‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الفتن‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ‏)‏‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏)‏‏.‏

وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الغنى، وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الفقر، وترجم لحديث أنس باب الاستعاذة من الجبن والكسل وفيه‏:‏ اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال‏)‏‏.‏

وترجم له باب التعوذ من البخل وفيه سعد عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنى أعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من الرد إلى أرذل العمر‏)‏، وترجم له ولحديث عائشة باب الاستعاذة من أرذل العمر، وترجم لحديث أنس باب التعوذ من أرذل العمر، وفيه‏:‏ ‏(‏أعوذ بك من الهرم‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ جميع أبواب الاستعاذة التى ترجم بها تدل آثارها على أنه ينبغى سؤال الله والرغبة إليه فى كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيّن كل ما يدعو فيه، ففى ذلك إطالةُ الرغبة إلى الله تعالى والتضرع إليه وذلك طاعة الله تعالى، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من كل ذلك ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه من كل شر، ليلزم نفسه خوف الله تعالى وإعظامه، وليسُنّ ذلك لأمته ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل شىء، وقد روى ثابت البنانى عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع‏)‏‏.‏

ليستشعر العبد الافتقار إلى ربه فى كل أمر وإن دق ولا يستحيى من سؤاله ذلك، فالتعوذ من فتنة المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تُحصى وكذلك التعوذ من المأثم والمغرم، روى عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن رجلاً قال للنبى صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف‏)‏‏.‏

وضلع الدين‏:‏ هو الذى لا يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب‏:‏ حمل مضلع أى‏:‏ ثقيل، ودابة مضلع‏:‏ لا تقوى على الحمل، عن صاحب العين، فمن كان هكذا فلا محالة أنه يؤكد ذلك عليه الكذب فى حديثه، والخلف فى وعده‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فإذا قد صح تعوّذ النبى صلى الله عليه وسلم من المغرم، فما أنت قائل فى ما روى جعفر بن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه، ما لم يكن فيما كره الله عز وجل‏)‏‏.‏

وكان عبد الله بن جعفر يقول‏:‏ اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت ليلة إلا والله معى بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع للآخر فأما قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى‏)‏‏.‏

فهو المستدين الذى ينوى قضاء دينه، وعنده فى الأغلب ما يقضيه فالله تعالى فى عونه على قضائه، وأما المغرم الذى استعاذ منه صلى الله عليه وسلم، فإنه الدين الذى استدين على أحد ثلاثة أوجه‏:‏ إما فيما يكرهه الله ولا يجد سبيلاً إلى قضائه فحق الله تعالى أن يؤديه، ومستدين فيما لا يكرهه؛ ولكنه لا وجه عنده لقضائه إن طالب به صاحبه، فهو معرض لهلاك أموال الناس ومتلف لها، ومستدين له إلى القضاء سبيل؛ غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه وظالم لنفسه، فكل هؤلاء فى القضاء مخلفون وفى حديثهم كاذبون‏.‏

فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره صلى الله عليه وسلم الدين فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه رهن عند يهودى بعشرين صاعًا من شعير، وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يئول من عواقب الإسراف فى إنفاقه، وبذله فيما لا ينبغى، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى وما يئول من عاقبة ذلك لضعف البشرية، وكذلك الاستعاذة من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر فى أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد فى العمل والإجمال فى الطلب ولا يكون عالةً ولا عيالاً على غيره ما متّع بصحة جوارحه وعقله، وكذلك الجبن مهانة فى النفس وذلة، ولا ينبغى للمؤمن أن يكون ذليلاً بالإيمان ولزوم طاعة الله التى تؤدى إلى النعيم المقيم، فينبغى للمؤمن أن يكثر التعوّذ من ذلك والهرم هو أرذل العمر الذى ينتهى بصاحبه إلى الخوف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلاً ويصير إلى حال من لا تمييز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله وحاجة نفسه، ومثل هذا خشى عمر رضى الله عنه حين قال‏:‏ اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مفرط ولا مضيّع‏.‏

وكان سنه حينئذ فيما قال مالك ستين سنةً، وقيل‏:‏ خمس وخمسين‏.‏

فخشى، رضى الله عنه، مزيد ضعفه فيضيع مما قلده الله شيئًا، ومن متّعه الله بصحة لم يزده طول العمر إلا خيرًا يستكثر من الحسنات ويستعتب من السيئات، وكذلك الهم والحزن لا ينبغى للمؤمن أن يكون مهمومًا بشىء من أمور الدنيا، فإن الله تعالى قد قدّر الأمور فأحكمها وقدّر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد فى الدنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يقدر له، وفى طول الهم قلة رضًا بقدر الله وسخطه على ربّه‏.‏

وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ اللهم رضنى بالقضاء، وحّبب إلىّ القدر حتى لا أحب تقديم ما أخرت ولا تأخير ما قدّمت‏.‏

ومن آمن بالقدر فلا ينبغى له أن يهتم على شىء فاته من الدنيا ولا يتهم، ربّه ففيما قضى له الخيرة، وإنما ينبغى للعبد الاهتمام بأمر الآخرة ويفكر فى معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل والقطمير ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا‏)‏‏.‏

فهاهنا يحسن الهم والبكاء‏.‏

وغلبة الرجال أشد من الموت؛ لأن المغلوب يصير كالعبد لمن غلبه وقهره، وكذلك البخل استعاذ منه عليه السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏، وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏وأى داء أدوى من البخل‏)‏‏.‏

ومعنى ذلك أن البخيل يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميين، ويمنع معروفه ورفده، ويسئ عشرة أهله وأقاربه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ قد دعا النبى صلى الله عليه وسلم بالمفصّلات والجوامع، وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله تعالى بالجوامع كنحو الرغبة فى العفو والعافية، والمعافاة فى الدنيا والآخرة اكتفاءً منهم بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغا‏.‏

قيل‏:‏ لكل نوع من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر فالجوامع تحتاج فى حال الحاجة إلى الإنجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء والصفات فى حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض استفتاحًا بذلك مغاليقها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم بكل ذلك فى مواضعه‏.‏

باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحبنا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سعد، عَادَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْها عَلَى الْمَوْتِ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

لم يذكر فى حديث سعد فى هذا الباب دعاء النبى صلى الله عليه وسلم له برفع الوجع، وذكر فى كتاب المرضى، فى باب دعاء العائد للمريض وقال فيه‏:‏ ‏(‏اللهم اشف سعدًا‏)‏‏.‏

وفى دعائه صلى الله عليه وسلم برفع الوباء والوجع رد على من زعم أن الولى لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله، ولا خفاء بسقوط هذا لأنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم حّبب إلينا المدينة وانقل حماها‏)‏‏.‏

فدعا بنقل الحمى عن المدينة، ومن فيها، وهو صلى الله عليه وسلم داخل فى تلك الدعوة، ولا توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم، وقد استقصيت هذا فى كتاب الحج‏.‏

باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاسْتِخَارَةِ

- فيه‏:‏ جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كما يعلمنا السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذَا هَمَّ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ‏:‏ فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ‏:‏ عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ وَرَضِّنِى بِهِ، وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ‏)‏‏.‏

فقه هذا الحديث أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فى الاستخارة، ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها كشدّة حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات، وفى هذا الحديث حجة على القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى الله عما يفترون، وقد أبان النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له؛ إذ هو المدعو لصرفه عن العبد، ومحال أن يسأله العبد أن يصرف عنه ما يملكه العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون تقدير الله عليه، وسيأتى فى كتاب القدر‏.‏

باب الْوُضُوءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏دَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ‏)‏، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه استعمال الوضوء عند الدعاء، وعند ذكر الله، وذلك من كمال أحوال الداعى والذاكر، ومما يرجى له به الإجابة لتعظيمه لله تعالى وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على طهارة، ولهذا المعنى تيمّم النبي عليه السلام بالجدار عند بئر جمل حين سلم عليه الرجل، وكذلك ردّ السلام عليه السلام على حال تيمم، ولم يكن له سبيل إلى الوضوء بالماء، وعلى هذا مضى عليه السلام ومضى سلف الأمة، كانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا لكثرة ذكرهم لله تعالى وكثرة تنفلهم، وقد روى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يبول ويتيمم، فأقول‏:‏ ‏(‏إن الماء قريب، فيقول‏:‏ لعلىّ لا أبلغه‏)‏‏.‏

وفيه حجة لمن استحب رفع اليدين فى الدعاء‏.‏

باب الدُّعَاءِ إِذَا عَلا عَقَبَةً

وقد تقدم فى كتاب الجهاد‏.‏

باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ منه

وقد تقدم أيضًا فى الجهاد‏.‏

باب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ

وقد تقدم فى النكاح‏.‏

باب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ‏؟‏

وقد تقدم فى كتاب الوضوء

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً‏)‏

- فيه‏:‏ أَنَس بن مالك، كَانَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مَا يدعو‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏)‏‏.‏

اختلف المفسرون فى تأويل هذه الآية، فقال الحسن‏:‏ الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة، وفى الآخرة الجنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ فى الدنيا عافية، وفى الآخرة عافية‏.‏

وقيل‏:‏ الحسنة فى الدنيا المال، وفى الآخرة الجنة، عن السدى‏.‏

باب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ، وَمَا صَنَعَهُ، فَدَعَا رَبَّهُ، ودَعَا‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

تكرير الدعاء عند حال الحاجة إلى إدامة الرغبة لله تعالى فى المهمات والشدائد النازلة بالعبد، وفى تكرير العبد الدعاء إظهار لموضع الفقر والحاجة إلى الله والتذلل له والخضوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يحب الملحّين فى الدعاء‏)‏، وإن ‏(‏الدعاء هو العبادة‏)‏، و ‏(‏من لم يدع غضب الله عليه‏)‏‏.‏

وقد تقدم فى أول كتاب الدعاء، من حديث ابن عيينة‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى رجلاً، فقال‏:‏ عليك بالدعاء، فإنك لا تدرى متى يستجاب لك‏)‏‏.‏

باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ دَعَا النَّبِيُّ عليه السلام فِي الصَّلاةِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا‏)‏، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنَ أَبِى أَوْفَى، دَعَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأحْزَابِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ‏:‏ ‏(‏سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِى الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ‏:‏ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، بَعَثَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ‏:‏ الْقُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَى شَىْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَتْ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، فَغضبت عَائِشَةُ، رضى الله عنها، فَقَالَتْ‏:‏ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ‏)‏، فَقَالَتْ‏:‏ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَلَمْ تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ‏:‏ وَعَلَيْكُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىّ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ‏:‏ ‏(‏مَلأ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاةِ الْوُسْطَى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد تقدم هذا فى كتاب الجهاد والاستسقاء، ونذكر هاهنا طرفًا من معناه، إنما كان صلى الله عليه وسلم يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم وإجرامهم، فكان يبالغ فى الدعاء على من اشتدّ أذاه للمسلمين، ألا ترى أنه لما يئس من قومه قال‏:‏ ‏(‏اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها كسنى يوسف‏)‏‏.‏

وقال مرةً‏:‏ ‏(‏اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف‏)‏‏.‏

ودعا على أبى جهل بالهلاك ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه فيهم، ودعا على الذين قتلوا القراء شهرًا فى القنوت، ودعا على أهل الأحزاب أن يحرقهم الله فى بيوتهم وقبورهم، فبالغ فى الدعاء عليهم لشدّة إجرامهم، ونهى عائشة عن الرد على اليهود باللعنة وأمرها بالرفق فى المقارضة لهم، والرد عليهم مثل قولهم ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن يكون كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على وجه التألف لهم والطمع فى إسلامهم والله أعلم‏.‏

وأما قوله فى حديث ابن عمر حين لعن النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين فى الصلاة فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏ فذهب بعض أهل التأويل أن هذه الآية ناسخة للعن النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين فى الصلاة والدعاء عليهم، وأنه عوض من ذلك القنوت فى الصبح، رواه ابن وهب وغيره‏.‏

وأكثر العلماء على أن الآية ليست ناسخة ولا منسوخة، وأن الدعاء على المشركين بالهلاك وغيره جائز لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم عليهم فى هذه الآثار المتواترة الثابتة‏.‏

باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنّ طُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ عليه السلام فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ‏)‏‏.‏

قد تقدّم هذا الباب فى كتاب الجهاد، ونبه البخارى على معناه فى الترجمة فقال‏:‏ باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومر هناك‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ‏:‏ ‏(‏رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطَايَاىَ وَعَمْدِى وَجَهْلِى وَهَزْلِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ إن قال قائل‏:‏ ما وجه دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الله أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدّم من ذنبه، وقد أعلمه الله تعالى أنه قد غفر له ذلك كله، فما وجه سؤاله ربه مغفرة ذنوبه، وهى مغفورة، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد ربه أن يجعله من بنى آدم، وهو منهم، وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلهما له‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه فى صلاته حين اقترب أجله، وبعد أن أنزل عليه‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ ناعيًا إليه نفسه فقال له‏:‏ ‏(‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وكان عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة‏)‏‏.‏

فكان هذا من فعله فى آخر عمره وبعد فتح مكة، وقد قال الله تعالى له‏:‏ ‏(‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، باستغفارك منه، فلم يسأل النبى صلى الله عليه وسلم أن يغفر له ذنبًا قد غفر له، وإنما غفر له ذنبًا وعده مغفرته له باستغفاره، ولذلك قال‏:‏ ‏(‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قال غير الطبرى‏:‏ وقد اختلف العلماء فى الذنوب هل تجوز على الأنبياء‏؟‏ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا تجوز عليهم الكبائر لعصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر‏.‏

وذهبت المعتزلة إلى أنه لا تجوز عليهم الصغائر كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، فقالوا‏:‏ إنما غفر له تعالى ما يقع منه من سهو وغفلةٍ، واجتهاد فى فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو الذى غفر له، وسمّاه‏:‏ ذنبًا؛ لأن صفته صفة الذنب المنهى عنه، إلا أن ذلك تعمد، وهذا بغير قصد‏.‏

هذا تأويل بعيد من الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها؛ لكانوا أسوأ حالاً من سائر الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان فلا يحتاجون إلى الاستغفار من ذلك، وما لم يوجب عليهم الاستغفار فلا يسمى عند العرب ذنبًا‏.‏

فالنبى صلى الله عليه وسلم المخبر لنا بذلك عن ربه أولى بأن يدخل مع أمته فى معنى ذلك، ولا يلزمه حكم السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره صلى الله عليه وسلم كفارة للصغائر الجائزة عليه، وهى التى سأل الله غفرانها له بقوله‏:‏ ‏(‏اغفر لى ما قدمت وما أخرت‏)‏‏.‏

وسأذكر هذه المسالة فى حديث الشفاعة فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى؛ لأن الحديث يقتضى ذلك‏.‏

وفيها قول آخر يحتمل والله أعلم، أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله تعالى، واستصحاب حال العبودية والاعتراف بالتقصير شكرًا لما أولاه ربه تعالى مما لا سبيل له إلى مكافأة بعمل، فكما كان يصلى صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه، فيقال له‏:‏ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏‏.‏

فكان اجتهاده فى الدعاء، والاعتراف بالذلل والتقصير، والأعواز والافتقار إلى الله تعالى شكرًا لربه، كما كان اجتهاده في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء لله تعالى من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته صلى الله عليه وسلم فيستشعروا الخوف والحذر ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وقد رأيت المحاسبى أشار إلى هذا المعنى، فقال‏:‏ خوف الملائكة والأنبياء لله تعالى هو خوف إعظام لأنهم آمنون فى أنفسهم بأمان الله لهم، فخوفهم تعبد لله إجلالاً وإعظامًا‏.‏

باب الدُّعَاءِ فِى السَّاعَةِ الَّتِى فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ

قد تقدم فى كتاب الصلاة‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏يُسْتَجَابُ لَنَا فِى الْيَهُودِ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ عليه السلام فَقَالُوا‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَعَلَيْكُمْ‏)‏، فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ، أَوِ الْفُحْشَ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الحديث، والله أعلم، أنه صلى الله عليه وسلم إنما يستجاب له فى اليهود؛ لأنهم على غير طريق الحق وضالين عن الهدى، ومعاندين فى التمادى على كفرهم بعدما تبين لهم الحق بالآيات الباهرات، فلذلك يستجاب له فيهم، ولهذا المعنى لم يستجب لهم فى النبى صلى الله عليه وسلم لأنهم ظالمون فى دعائهم عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 14‏]‏، وهذا أصل فى دعاء الظالم أنه لا يستجاب فيمن دعا عليه، وإنما يرتفع إلى الله تعالى من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدّق‏.‏

باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَالَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الذكر التهليل لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله‏)‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه اسم الله الأعظم، وذكر الطبرى من حديث سعيد بن أبى عروبة، عن عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا قال‏:‏ لا إله إلا الله فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله عملاً حتى يقولها، فإذا قال‏:‏ الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها‏)‏‏.‏

وروى عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها‏:‏ الحمد لله رب العالمين‏)‏‏.‏

وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول من يدخل الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله فى السراء والضراء‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ أشهدك أن ما أصبح بى من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد والشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم‏)‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه أمر يكرهه قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله على كل حال، وإذا رأى أمرًا يسره قال‏:‏ الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات‏)‏‏.‏

باب فَضْلِ التَّسْبِيحِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ‏)‏‏.‏

معنى قولهم فى لغة العرب سبحان الله تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ ما من عبد يقول سبحان الله وبحمده، إلا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏صدق عبدى سبحانى وبحمدى، فإن سأل أعطى ما سأل، وإن سكت غفر له ما لا يحصى‏)‏‏.‏

وروى عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏صلاة الملائكة التسبيح، فأهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون‏:‏ سبحان ذى الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون‏:‏ سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون‏:‏ سبحان الحى الذى لا يموت‏)‏‏.‏

وروى الليث، عن ابن عجلان قال‏:‏ جئت إلى القعقاع بن حكيم فى السحر أسأله فلم يجبنى، فلمّا فرغ قال‏:‏ هذه الساعة يوكل الله الملائكة بالناس يقولون سبحان الملك القدوس‏.‏

وروى عن ابن عباس قى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل ينوب شىء عن تكرار التسبيح والتحميد‏؟‏ قيل‏:‏ قد روى عن صفية قالت‏:‏ ‏(‏مرّ بى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا أسبح بأربعة آلاف نواة، فقال‏:‏ لقد قلت كلمة هى أفضل من تسبيحك‏.‏

قلت‏:‏ وما قلت‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ سبحان الله عدد ما خلق‏)‏‏.‏

وعن كريب عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم مرّ على جويرية فى مصلاها باكرًا تسبح وتذكر الله، فمضى لحاجته، فرجع إليها بعد ما ارتفع النهار، فقال لها‏:‏ ما زلت فى مكانك هذا‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏

فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد تكلمت بكلمات لو وزنت بما قلت لرجحت، سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، والحمد لله مثل ذلك‏)‏‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ هذه الفضائل التى جاءت عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وما شاكلها إنما هى لأهل الشرف فى الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصرّ على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم فى ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على هواه‏.‏

باب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِى لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا هَلُمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ، قَالَ‏:‏ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ‏:‏ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ‏:‏ مَا يَقُولُ عِبَادِى‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ‏:‏ فَيَقُولُ‏:‏ هَلْ رَأَوْنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ‏:‏ فَيَقُولُ‏:‏ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ‏:‏ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَهَلْ رَأَوْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ‏:‏ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ مِنَ النَّارِ‏:‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَهَلْ رَأَوْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ‏:‏ فَيَقُولُ‏:‏ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ‏:‏ يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِيهِمْ‏:‏ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ‏:‏ هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا حديث شريف فى فضل ذكر الله عز وجل وتسبيحه وتهليله، وقد وردت فى ذلك أخبار كثيرة منها ما روى زيد بن أسلم‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر قال‏:‏ قلت لأبى ذرّ‏:‏ يا عمّ، أوصنى‏.‏

قال‏:‏ سألت رسول الله كما سألتنى، فقال‏:‏ ‏(‏ما من يوم وليلة إلا ولله فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما مَنّ الله على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره‏)‏‏.‏

وروى شعبة وسفيان عن أبى إسحاق عن أبى مسلم الأغر أنه شهد على أبى هريرة وأبى سعيد، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده‏)‏‏.‏

وقال معاذ‏:‏ ليس شىء أنجى من عذاب الله من ذكر الله‏.‏

وقال ابن عباس، يرفع الحديث‏:‏ ‏(‏من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده، فليكثر من ذكر الله‏)‏‏.‏

وروى أبو سلمة عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيروا، سبق المستهترون‏.‏

قيل‏:‏ ومن هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الذين أُهتروا واستهتروا بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، ويأتون يوم القيامة خفافًا‏)‏‏.‏

وروى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة‏)‏‏.‏

وعن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارتعوا فى رياض الجنة‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما رياضُ الجنّة‏؟‏ قال‏:‏ مجالس الذكر، واغدوا وروحوا فى ذكر الله، واذكروهُ فى أنفسكم، من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه‏)‏‏.‏

وروى الأعمش عن سالم بن أبى الجعد قال‏:‏ قيل لأبى الدرداء‏:‏ إن رجلاً أعتق مائة نسمةً قال‏:‏ إن ذلك من مال رجل لكثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏سأل موسى صلوات الله عليه ربه تعالى فقال‏:‏ ربّ، أى عبادك أحبّ إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذى يذكرنى ولا ينسانى‏)‏‏.‏

ثم قال ابن عباس‏:‏ ما جلس قوم فى بيت من بيوت الله، يذكرون الله، إلا كانوا أضيافًا لله عز وجل ما داموا فيه حتى يتصدعوا عنه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه‏.‏

ذكر هذه الآثار كلها الطبرى فى آداب النفوس‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفقه هذا الباب أنّ معنى أمر الله تعالى العبد بذكره وترغيبه فيه؛ ليكون ذلك سببًا لمغفرته تعالى له ورحمته إياه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وذكر الله للعبد رحمه له، قال ثابت البنانى‏:‏ قال أبو عثمان النهدى‏:‏ إنى لأعلم الساعة التى يذكرنا الله تعالى فيها‏.‏

قيل‏:‏ ومن أين تعلمتها‏؟‏ قال‏:‏ يقول الله‏:‏ ‏(‏فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏

وقال السدى‏:‏ ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب‏.‏

وروى معناه عن ابن عباس وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ اذكروا نعمتى عليكم شكرًا لها، أذكركم برحمتى والزيادة من النعم‏.‏

وروى عن عمر بن الخطاب‏:‏ إن الذكر ذكران‏:‏ أحدهما‏:‏ ذكر الله عند أوامره ونواهيه، والثانى‏:‏ ذكر الله باللسان، وكلاهما فيه الأجر، إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر ما أمر به، وانتهى عما نُهى عنه؛ أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر فى اجتماعهما من الإنسان، وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره ونهيه فينتهى، ولا ينساه من ذكره بلسانه، وسأذكر فى كتاب الرقاق فى باب من همّ بحسنة أو سيئة، هل يكتب الحفظة الذكر بالقلب‏؟‏ وما للسلف فى ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

وذكر البخارى فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل من أحوال العبد حال يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا بقلبه‏؟‏ قيل‏:‏ نعم هى أحوال أداء فرائضه، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وسائر الفرائض، فإن على كل من لزمه عمل شىء من ذلك أن يكون عند دخوله فى كل ما كان من ذلك له تطاول بابتداء بأوّل وانقضاء بآخر أن يتوجّه إلى الله تعالى بعمله، ويذكره فى حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاول منه، فعليه توجهه إلى الله بقلبه فى حال عمله وذكره، ما كان مشتغلاً به، وما كان نفلاً وتطوعًا فإنه وإن لم يكن فرضًا عليه فلا ينتفع به عامله إن لم يرد به وجه الله، ولا ذكره عند ابتدائه فيه‏.‏

باب قَوْلِ الرجل‏:‏ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، أَخَذَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى عَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ‏:‏ فِى ثَنِيَّةٍ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا عَلا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى، فَرَفَعَ صَوْتَهُ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ‏:‏ وَالنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ يَلَى قَالَ‏:‏ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ‏)‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ إن قال قائل‏:‏ أى أنواع الذكر أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير‏؟‏ قيل‏:‏ أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التى لا يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله، على ما تقدّم فى حديث جابر فى باب فضل التهليل، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون خصلة، أكبرها شهادة أن لا إله إلا الله وأصغرها إماطة الأذى عن الطريق‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم للذى رفع صوته بلا إله إلا الله، ألا أدلك على كنز الجنة فقال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله تغنى عن غيرها، وهى المنجية من النار‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان معلمًا لأمته، وكان لا يراهم على حالة من الخير، إلا أحبّ لهم الزيادة عليها فأحب للذى رفع صوته بكلمة الإخلاص والتوحيد أن يردفها بالتبرؤ من الحول والقوة لله تعالى وإلقاء القدرة إليه، فيكون قد جمع مع التوحيد الإيمان بالقدر‏.‏

وقد جاء نحو هذا المعنى فى حديث عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ إن الرجل إذا قال‏:‏ لا إله إلا الله، فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله من أحدٍ عملاً حتى يقولها، فإذا قال‏:‏ الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها، فإذا قال‏:‏ الله أكبر فهى كلمة تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا قال‏:‏ سبحان الله فهى صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدًا حتى قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال‏:‏ استسلم عبدى‏.‏

وروى عن سالم بن عبد الله، عن أبى أيوب الأنصارى‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به مَرّ على إبراهيم خليل الله، فقال له‏:‏ مُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة‏.‏

قال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما غراس الجنة‏؟‏ قال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏.‏

ومن حديث جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أكثروا من قول‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تدفع تسعًا وتسعين داءً أدناها الهم‏)‏‏.‏

وقال مكحول‏:‏ من قالها كشف عنه سبعون بابًا من الضر، أدناها الفقر‏.‏

ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله‏:‏ لا حول عن معاصى الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله، قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كذلك أخبرنى جبريل عن الله تعالى‏)‏‏.‏

وروى عن علىّ بن أبى طالب تفسير آخر قال تفسيرها‏:‏ إنا لا نملك مع الله شيئًا، ولا نملك من دونه شيئًا، ولا نملك إلا ما ملكنا مما هو أملك به منا‏.‏

وحكى أهل اللغة أن معنى لا حول‏:‏ لا حيلة، يقال‏:‏ ما للرجل حيلة ولا قوة ولا احتيال ولا محتال ولا محالة ولا محال، وقوله‏:‏ ‏(‏وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏، يعنى المكر والقوة والشدّة‏.‏

باب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ‏:‏ ‏(‏لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلا وَاحِدًا، لا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ اختلف الناس فى الاستدلال من هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن ظاهره يقتضى أن لا اسم لله تعالى غير التسعة والتسعين اسمًا التى نص عليها النبى صلى الله عليه وسلم إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذه العدة معنى، قالوا‏:‏ والشريعة متناهية والحكمة فيها بالغة، وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن تكون له أسماء زائدة على التسعة والتسعين، إذا لا يجوز أن تتناهى أسماء الله تعالى، لأن مدائحه وفواضله غير متناهية كما قال تعالى فى كلماته وحكمه‏:‏ ‏(‏وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ومعنى ما أخبرنا به النبى من التسعة وتسعين اسمًا إنما هو معنى الشرع لنا فى الدعاء بها، وغيرها من الأسماء لم يشرع لنا الدعاء بها؛ لأن حديث النبى صلى الله عليه وسلم مبنى على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، فكان ذكر هذا العدد إنما هو لشرع الدعاء به، وهذا القول أميلُ إلى النفوس؛ لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون ولا ينتهى إلى صفاته المقرظون دليل لازم أن له أسماء غير هذه وصفات، وإلا فقد تناهت صفاته تعالى عن ذلك، وهذا قول أبى الحسن الأشعرى، وابن الطيب وجماعة من أهل العلم‏.‏

قال ابن الطيب‏:‏ وليس فى الحديث دليل على أن ليس لله تعالى أكثر من تسعة وتسعين اسمًا، لكن ظاهر الحديث يقتضى من أحصى تلك التسعة وتسعين اسمًا على وجه التعظيم لله دخل الجنة، وإن كان له أسماء أخر‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى، رحمه الله‏:‏ أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، والتوقيف كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام أو اتفاق أمته، وليس للقياس فى ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنما هو عن سمع علموه من بيان الرسول‏.‏

قال‏:‏ ولم يذكر فى كتاب الله لأسمائه تعالى عدد مسمّى، وقد جاء حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسمًا‏)‏‏.‏

وقد أخرج بعض الناس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا، والله أعلم بما خرج من هذا العدد إن كان كل ذلك أسماء، أو بعضها أسماء وبعضها صفات، ولا يسلم له ما نقله من ذلك‏.‏

وقال الداودى‏:‏ لم يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نص على التسعة والتسعين اسمًا‏.‏

قال ابن القابسى‏:‏ وقد روى مالك، عن سمى، عن القعقاع بن حكيم أن كعب الأحبار أخبره‏:‏ لولا كلمات أقولهن لجعلتنى يهود حمارًا‏.‏

فقيل له‏:‏ ما هن‏؟‏ فقال‏:‏ أعوذ بوجه الله العظيم الذى ليس شىء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم؛ من شر ما خلق وذرأ وبرأ‏.‏

فهذا كعب على علمه واتساعه لم يتعاط أن يحصر معرفة الأسماء فى مثل ما حصرها هذا الذى زعم أنه عرفها من القرآن، والدعاء فى هذا بدعاء كعب أولى وأسلم من التكلف، وسمعت أبا إسحاق الشيبانى يدعو بذلك كثيرًا، وسيأتى تفسير الإحصاء، والمراد بهذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قول النبى صلى الله عليه وسلم باسم الله الأعظم، فمنها ما رواه وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه‏:‏ ‏(‏أن رسول الله سمع رجلاً يقول‏:‏ اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد‏.‏

فقال‏:‏ لقد دعا باسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى‏)‏‏.‏

ومنها حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏اسم الله الأعظم فى هاتين الآيتين‏:‏ ‏(‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏‏.‏

ومنها ما رواه على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ سمعت سعد بن مالك يقول‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اسم الله الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب دعوة يونس بن متى، ألم تسمع قوله‏:‏ ‏(‏فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87، 88‏]‏، فهو شرط الله لمن دعا بها‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قد اختلف من قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم فى ذلك ما قال قتادة‏:‏ اسم الله الأعظم‏:‏ اللهم إنى أعوذ بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك التى إذا دعيت بها أجبت، وإذا سئلت بها أعطيت‏.‏

وقال آخرون‏:‏ اسم الله الأعظم‏:‏ هو الله، ألم تسمع قوله‏:‏ ‏(‏هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22، 23‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن العلماء قال الطبرى‏:‏ والصواب فى كل ما روينا فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن السلف أنه صحيح‏.‏

فإن قيل‏:‏ وكيف يكون ذلك صحيحًا مع اختلاف ألفاظ ومعانيه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لم يرو عن أحد منهم أنه قال فى شىء من ذلك قد دعا باسمه الأعظم الذى لا اسم له أعظم منه فيكون ذلك من روايتهم اختلافًا، وأسماء الله تعالى كلها عندنا عظيمة جليلة، ليس منها صغير وليس منها اسم أعظم من اسم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد دعا باسمه الأعظم؛ لقد دعا باسمه العظيم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ بمعنى وهو هين عليه، وكما قال ابن أوس‏:‏ لعمرك ما أدرى وإنى لأَوْجَل بمعنى إنى لوجِل، ويبين صحة ما قلناه حديث حفص ابن أخى أنس بن مالك، عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد دعا باسمه العظيم الذى إذا دعى به أجاب‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ باسمه العظيم، إذ كان معنى ذلك ومعنى الأعظم واحدًا‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ لا يجوز أن يقال فى أسماء الله وصفاته ما يُشبه المخلوقات، ولو كان فى أسماء الله اسمًا أعظم من اسم لكان غيره ومنفصلاً منه، والاسم هو المسمى على قول أهل السنة فلا يجوز أن يكون الاسمان متغايرين، ومن جعل اسمًا أعظم من اسم صار إلى قول من يقول‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ فلو كان كما وصفت كل اسم من أسماء الله عظيمًا، لا شىء منها أعظم من شىء، لكان كل من دعا باسم من أسمائه مجابًا دعاؤه كما استجيب دعاء صاحب سليمان صلى الله عليه وسلم الذى أتاه بعرش بلقيس من مسيرة شهر قبل أن يرتدّ إلى سليمان طرفه؛ لأنه كان عنده علم من اسم الله الأعظم، وكذلك عيسى، صلوات الله عليه، به كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وقد يدعو أحدنا الدهر الطويل بأسمائه فلا يستجاب له، فدل أن الأمر بخلاف ذلك‏.‏

قيل‏:‏ بل الأمر فى ذلك كما قلناه، ولكن أحوال الداعين تختلف، فمن داعٍ ربه تعالى لا ترد دعوته، ومن داعٍ محله محل من غضب الله عليه وعرضه للبلاء والفتنة فلا يرد كثيرًا من دعائه ليبتليه به ويبتلي به غيره، ومن داعٍ يوافق دعاؤه محتوم قضائه ومبرم قدره، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يدعو إلا استجيب له ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له فى الدنيا، وإما أن يدخر له فى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا‏)‏‏.‏

ويبين ما قلناه أنا وجدنا أنه يدعو بالذى دعا به الذين عجلت لهم الإجابة فلا يجاب له، فدل إن الذى أوجب الإجابة لمن أُجيب، وترك الاستجابة لمن لم يستجب له اختلاف حال الداعين، لا الدعاء باسم من أسماء الله بعينه‏.‏

وقد وقع فى هذا الحديث من رواية سفيان عن أبى الزناد‏:‏ ‏(‏مائة إلا واحدة‏)‏‏.‏

ولا يجوز فى العربية، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاعتصام‏:‏ ‏(‏مائة إلا واحدًا‏)‏‏.‏

من رواية شعيب عن أبى الزناد، وهو الصحيح فى العربية؛ لأن الاسم مذكر، فلا يستثنى منه إلا مذكر مثله‏.‏